28‏/12‏/2010

هيلين توماس- عميدة الصحفيين في أمريكا وقصتها مع اللوبي الصهيوني



علاد الدين أبو زينة
جريدة الغد

 


قبل نحو أسبوع من الآن، وفي ورشة عمل عقدتها المجموعة العربية-الأميركية في ديترويت، تحدثت الصحافية المخضرمة هيلين توماس ثانية، وهذه المرة عن احتلال الصهيونية لأميركا: "يمكنني أن أنعت رئيس الولايات المتحدة بأي وصف ورد في الكتاب، لكنني لا أستطيع المساس بإسرائيل التي تضم طرقا مخصصة لليهود فقط في الضفة الغربية، في وقت لا يمكن فيه لأميركي أن يتسامح مع وجود طرق للبيض فقط... إننا مملوكون مرة أخرى لمحترفي الدعاية ضد العرب. والكونغرس، والبيت الأبيض، وهوليوود، وول ستريت، كلها يمتلكها الصهاينة بلا شك في رأيي. إنهم يضعون المال مكان الأفواه... ونحن نُدفع إلى الوجهة الخطأ بكل سبيل".





وقبل ذلك، كانت هيلين قد أعلنت موقفها الذي دفعت ثمنه وظيفتها: "على الإسرائيليين أن يخرجوا من فلسطين... أن يعودوا إلى بلدانهم... إلى بولندا وألمانيا وأميركا وكل مكان آخر". ومع ما تناقلته الأخبار من اعتذارها عن تصريحها ذاك، لا يبدو أن ضميرها قد استطاع العودة إلى النوم. وقالت أخيراً: "لقد دفعت ثمن ذلك، لكنه يستحق ثمنه إذا أردتم الحقيقة". وكان القسط الأخير من الثمن الذي دفعته الصحافية البالغة من العمر 90 عاماً، هو إعلان جامعة "وين ستيت" يوم الأحد الماضي عن وقف منح جائزة "روح التنوع التقديرية في مجال الإعلام" التي تحمل اسمها. والسبب: التهمة التي ابتدعتها آلة الدعاية الصهيونية لتكون نظيراً للإعدام الأخلاقي: معاداة السامية.


وكان رد هيلين توماس على التهمة واقعياً وبدهياً، ولو أن أحداً لا يريد الانتباه إلى بداهته. قالت الصحافية لبنانية الأصل: "أقول إنني سامية أنا نفسي. ما الذي تتحدثون عنه. نعرف جميعاً أن العرب يوصمون هنا. إنهم يعتبرون إرهابيين بشكل آلي. لقد وصفوني بأني حزب الله في البيت الأبيض، وحماس وكل شيء آخر، لكنني لم أرضخ أبداً لتلك الافتراءات، لأنني أعرف من أكون: إنني أميركية". ثم ذكّرت هيلين بحقيقة أخرى لا يرغبون سماعها، فقالت إن الزعيم الإسرائيلي السابق "مناحيم بيغن هو الذي خلق الإرهاب، وتفاخر في كتابه الأول بابتكاره القواعد الأولى لطرائق الإرهاب". وأضافت أن على الصهاينة أن يفهموا أن فلسطين تعود للعرب أيضاً:
"كان الفلسطينيون هناك قبل وقت طويل من وجود أي صهيوني أوروبي".



ثم تحدثت هيلين توماس أيضاً عن حماقة تورط أميركا في حروب الشرق الأوسط "من أجل جعله آمناً لإسرائيل"، وعن خطل السياسات الأميركية. وليس مضمون خطابها جديداً علينا نحن، لكنه يصبح بالغ الأهمية بسبب جرأته على أعراف المكان الذي تقوله فيه والجمهور الذي تستهدفه. والدرس الأول الذي أعتقد بوجاهته في قصة هيلين توماس، هو اختيارها ختاماً حسناً لمهنتها الصحافية بقول الحقيقة وإطلاق صوت الضمير. وقد يعتبر البعض ذلك "انتحاراً مهنياً"، لكن البديل عنه، أعني سكوت الصحافيين وأصحاب الرأي والمفكرين عن قول الحقيقة، لا يعدو كونه قتلاً واعياً ومتعمداً للضمير الأخلاقي والمهني والإنساني، وخذلاناً للذات والناس. وحين تفرط الأوضاع في السوء، لا تعود الجرأة على قول الحقيقة مجرد ضرورة أخلاقية، وإنما ضرورة عملية من أجل تشخيص الإخفاقات وتكشيف الزيف، ثم اجتراح الحلول. قد لا يكون ما فضحته هيلين توماس من هيمنة "لوبي إسرائيل" على المؤسسات الأميركية المهمة شيئاً جديداً، لكن الضجة التي أثارتها تصريحاتها تؤشر على أهمية موقف الصحافي المحترف وخطورته. وقد شكل غياب مثل هذا الدور النقدي المؤثر للصحافي والصحافة في بلادنا سبباً أساسياً في التعمية على سوء الأوضاع وسيادة أحدية المنظور. أما الدرس الثاني الذي ينبغي تعلمه من آراء هيلين توماس، فهو أن على العرب والفلسطينيين الكفّ تماماً عن المراهنة على نزاهة مراكز صنع القرار الأميركية، وأن يبحثوا عن مكان آخر يعرضون فيه قضاياهم.
قد يقول الضمير الكسول: في "بلد الديمقراطية" نفسه، خسرت عميدة الصحافة وظيفتها وتعرضت للتشهير بسبب قولها الحقيقة في وجه السلطة. لكن ذلك أسوأ مبرر لصمت الصحافة والمثقفين عن قول الحقيقة، وتركهم ميدان صناعة الرأي لصيادي المكافآت أو الانحياز إليهم.
إن الإنسان في النهاية هو ضمير وموقف، فما هو الثمن الأغلى من شراء المرء إنسانيته 
وموقفه، وعن طيب خاطر؟


هناك تعليقان (2):