27‏/09‏/2006

العقيدة الكلامية أم الأفعال العملية


 
 
(taken from the following link - goto question 3)

السؤال الثالث :
شكرا لهذه الفرصة المتاحة للتواصل مع الأستاذ الشنقيطي.

أستاذي العزيز ،

بداية أهنئك على توفيق الله عز وجل لك في كتابك الحديث (الخلافات السياسية بين الصحابة). وأسأل الله تعالى أن يجعل من بحثك مقدمة لعمل مستقبلي ضخم يساهم في تجسير الهوة بين المسلمين .

لي بعض الأسئلة (أو إن شئت بعض الخواطر) التي أرجو أن أعرف رأي الشنقيطي فيها ، وأرجو أن يتسع صدره (وصدر قراء المنتدى) لطول الطرح ، فهي نتاج خواطر تؤرقني منذ سنوات ـ وتوصلت فيها إلى بعض الثمار ، وأرجو الله أن يوفقني وييسر لي الكتابة في بعضها (يوما ما) بتأصيل شرعي وأكاديمي. ولعل موقع (الوحدة الإسلامية) ، وأنا مؤسسه والمشرف عليه ، هو بعض ثمار هذه الخواطر.

1- في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم المعروف بحديث تأبير النخل ورد قوله: (أنتم أعلم بأمور دنياكم). ولا شك أن أكبر معضلة يواجهها الإنسان المسلم هي التفريق بين ما هو دين وما هو دنيا في حياته. وهذا الأمر ينطبق على المستوى الفردي والمستوى الجماعي :
- في العقائد والأفكار والتصورات
- في السلوكيات
- وفي المناهج

ففي العقائد مثلا ، لا يمكن لأحد أن يفصل بين معتقداته الدينية ومعتقداته الدنيوية (وأجزم أن ذلك لا يخرج عنه أي بشر سوى الرسل المسددين بالوحي الإلهي).

ألا ترى أن آفة المسلمين (وأخص منهم بالذكر العاملين للإسلام أفرادا وحركات) تكمن في الخلط بين معتقداتهم الدينية ومعتقداتهم الدنيوية (المكتسبة من تجاربهم الفردية والاجتماعية وخصائصهم النفسية والعقلية) ، وعدم قدرتهم على التمييز بين ما هو يقيني لا يقبل الاختلاف وما هو غير يقيني (ولا أقول ظني) يمكن الاختلاف فيه لاختلاف البشر الفطري (... ولذلك خلقهم) ؟ وأستحضر هنا حديث الفطرة (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة ، فأبواه ينصرانه أو يهودانه أو يمجّسانه).

ألا ترى أن تقسيم علوم الدين إلى (عقيدة) و (شريعة) ، شكل بداية الخطإ المنهجي الإسلامي في فهم الدين ؟ وأن الأولى هو تقسيم الدين إلى ما هو (يقيني) وما هو (غير يقيني) ، وأن ذلك أولى لتجسير الهوة وتقليص مواطن الخلاف والمساعدة على فهم أفضل للدين ؟

بعبارة أخرى ، ألات ترى أن (إعادة تصنيف العقائد الإسلامية) أصبح ضرورة لا مناص منها للتقريب بين المسلمين ؟

2- ألا ترى أن من الضروري توجيه عناية العلماء والمفكرين الإسلاميين إلى البحث في كيفية الفصل بين فهم عالِم الدين الذاتي (المبني على خصائصه النفسية والعقلية المكتسبة إما بالوراثة عن والديه ومشايخه و محيطه الأسري والاجتماعي، أو المكتسبة عن طريق البناء المعرفي التراكمي الذي يقوم به كل إنسان طيلة مسيرته في الحياة) وبين الحقيقة الموضوعية المعروضة في النصوص الشرعية ، كعامل أساسي من عوامل التقريب بين المسلمين ؟

3- في مناهج الحركات الإسلامية السنّية ، يوجد توجهان عامان يسودان منهج التقريب بين المختلفين : منهج الدعوة إلى التقريب بين السنة والشيعة ، ومنهج التقريب بين التيار الإسلامي والتيار القومي. فما هي ضوابط تقويم المنهجين لمعرفة أيها أولى ؟

منبع سؤالي هو أن التيار القومي (في عمومه) يعتبر الإسلام مجرد تراث عربي إنساني. بينما يعتبر التيار الإسلامي (والمسلمون عموما) شيعة وسنة أن الإسلام عقيدة ومنهج حياة. فلماذا يسعى بعض الإسلاميين إلى التقارب مع القوميين أكثر من الشيعة ، في حين أن الأولى هو توجيه العناية إلى التقريب بين المؤمنين بالإسلام كعقيدة ومنهج حياة ؟

3- مفهوم (الجماعة) في الإسلام شهد تطورات تاريخية عديدة ، منذ عهد الرساول صلى الله عليه وسلم ، حيث أخذ المفهوم صيغة واحدة هي (جماعة المسلمين) التي يخلع مفارقها ربقة الإسلام عن عنقه. وقد ارتبط هذا المفهوم بمفهوم البيعة الواحد والإمام الواحد. غير أن هذه المفاهيم تغيرت في ما بعد بظهور الخلاف بين المسلمين في مسائل الخلافة والإمامة ، إلى أن قبل المسلمون تعدد الإمارات الإسلامية وتعدد الأمراء باستمرار الدولة الأموية في الأندلس رغم قيام الدولة العباسية. واستمر التطور إلى أن أصبحت الدويلات الإسلامية أمرا واقعا.
وبظهور جمال الدين الأفغاني وفكرة الجامعة الإسلامية ، ثم من ورائه البنا والمودودي والندوي (وقبلهم محمد إلياس والكندهلوي في الهند) ، عاد مفهوم التنظيم الإسلامي إلى البروز ، وعادت معها إلى الظهور مفاهيم (جماعة المسلمين) و (الفرقة الناجية)، التي قد تخفت في بعض الأحيان ، لتظهر من جديد بأشكال جديدة ، مثل ظهور القطبيين و(الناجين من النار) في الستينات والسبعينات ، أو السلفية في السبعينات والثمانينات ، أو التيارات الجهادية أو التكفيرية حاليا...

ألا ترى أن مفهوم (الحركة الإسلامية) أو (الجماعة الإسلامية) أصبح تقليديا ، غير منسجم مع تطور الأنشطة الجماعية البشرية المعاصرة ؟ وأن الأولى أن يصبح العمل الإسلامي قائما على علوم الإدارة الحديثة القائمة على تجميع الإسلاميين على قاعدة التخصص، تنتفي معه مفاهيم (البيعة) و(الإمارة) التي تجعل من (الجماعة الإسلامية) جهازا ضخما يشبه (الدويلة داخل الدولة) ييسلم فيها القياد كله للأمير ومجلس الشوى ، لتحل محلها مفاهيم (القيادة) و (العمل التطوعي) و (التنظيم الإداري) التي لا تضفي أي قداسة باسم الدين على شكل الجماعة ، وإن كان منهجها ونشاطها يهدفان إلى إقامة الحياة الإسلامية ؟

بعبارة أخرى : هل تعتبر مفاهيم الإمامة والخلافة مفاهيم عقائدية أم أنها مفاهيم اجتماعية ؟

أكتفي بهذه التساؤلات مؤقتا ، راجيا أن تتوفر لي فرص أخرى للحديث أكثر عن هذه المواضيع وغيرها.

مع خالص التحية والشكر.

أبو أحمد.


الجواب :

شكر الله لكم أخي الكريم أبا أحمد الجهد الطيب في موقع الوحدة، وتقبل منكم حمل الهم والقلم لخدمة الأمة والملة.

1- إذا نظرنا إلى التصنيفات الاصطلاحية في سياق الامتداد الزمني، نجدها تبدأ أداة منهجية مفيدة، ثم تتحول عبئا فكريا وأخلاقيا بعد ذلك. وليس هذا الأمر خاصا بثنائي العقيدة والشريعة فقط، بل هو يشمل ثنائيات أخرى مثل السنة والشيعة، وغيرها. أنا لا أرى فائدة من استخدام مصطلح "العقيدة"، بل أرى أن مصطلح "الإيمان" أفضل وأولى. لأن مصطلح العقيدة تحول مفهوما نظريا فلسفيا، فأصبحت علامة حسن إسلام المرء مجرد "إعلان مبادئ" يدعي فيها التزامه بـ"عقيدة السلف" أو "عقيدة أهل السنة والجماعة"، حتى ولو كان أقل الناس التزاما بمقتضيات الدين.. بينما استخدام مصطلح الإيمان يرجعنا إلى المدلول العملي للإسلام، ويصبح التفاضل على أساس التقوى والالتزام والمجاهدة لخدمة الإسلام، ولأن الإيمان قول وعمل وهو يزيد وينقص، فإن استخدام مصطلح الإيمان يجعل المسلم أكثر تواضعا وأقل تبجحا مما هو الحال اليوم، حيث يسود الادعاء العريض باتباع "المنهج الصحيح" في الاعتقاد.

نقطة أخرى مهمة وهي أن الصحابة – كما روى عنهم ابن تيمية رحمه الله- كانوا يتعاذرون في الأمور النظرية أكثر من العملية، فالذي يخطئ –بحسن نية- حتى ولو في أمر من أمور العقيدة لا يعنفونه، لكن الذي يستهتر بالدين عمليا – وهو يعي ما يفعل- هو الذي يجد منهم التعنيف والمقاومة. وبعض الآراء التي صدرت عن بعض كبار الصحابة - مثل القرءات الشاذة- لو قال بها اليوم أحد المسلمين لحكم عليه الناس بالكفر، لكنك تعجب حينما لا تجد من الصحابة نكيرا على ذلك، وما ذلك إلا لأنهم غلبوا العمل على الجدل، وجعلوا الالتزام العملي معيارا التفاضل، لا الإعلانات النظرية.

2- الفصل بين "علم الدين الذاتي" وبين " الحقيقة الموضوعية المعروضة في النصوص الشرعية" ليس بالأمر السهل، لأن هذه الحقيقة الموضوعية لا تكشف ذاتها لنا دون وسائط، بل هي تأتينا في شكل شروح وحواش وتفسيرات من أهل العلم. ومع ذلك فإن هذا الفصل أمر لازم لكل تجديد. وقد دعا مالك بن نبي رحمه الله إلى "تجريد الآيات القرآنية من الغواشي الفقهية والفلسفية والتاريخية"، وهو قريب مما تكرمتم به.

إن الفكر الإسلامي في مسيس الحاجة إلى مراجعة آلياته، وعدم التسليم بالمسلمات دون فحص أو مراجعة. وأول طريق إلى هذه المراجعة هي الفصل بين الوحي والتاريخ، والتحرر من خطإ الخلط الضمني بينهما في المرجعية.

3- أعتقد أن مفهوم "الخلافة والإمامة" مفهوم سياسي، وليس مفهوما عقديا، لكن هذا لا يعني أنه ليس جزءا من الدين، بل هو جزء أصيل من تحقيق مصلحة الجماعة عبر الدين. والإسلام دين محوري يستقطب حياة الفرد والمجتمع كلها. ولا ينفي ذلك الحاجة الملحة للاغتراف من الفكر الإداري والسياسي المعاصر. فليس العيب في "البيعة" و"الإمارة"، فكلاهما مفهوم شرعي وعملي أصيل، بل فيما نضفيه أحيانا على هذه المفهومين وغيرهما من معان ودلالات لا تنسجم مع روح الشرع في العدل والحرية والديمقراطية.

فما نحتاجه اليوم هو التحرر من الوثنية السياسية السائدة في العالم الإسلام الآن، والانطلاق من أن الأمير أجير، وليس ربا معبودا، وأن الحركة وسيلة لا غاية، وأن البيعة التزام لا إلزام...الخ وقد أورد الحافظ الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" أن التابعي الزاهد أبا مسلم الخولاني دخل على معاوية بن أبي سفيان، أيام ملكه بالشام، فقام بين السماطين فقال: السلام عليك أيها الأجير، فقالوا :مهْ، فقال معاوية: دعوه فهو أعرف بما يقول، وعليك السلام يا أبا مسلم. ثم وعظه وحثه على العدل.

وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" في ترجمة الشاعر المتنبي أن المتنبي مدح مرة أحد الملوك بأسلوبه المغالي، فقال:
يا من ألوذ به فيــما أؤمله ومن أعوذ به مما أحـــاذره
لا يجبر الناس عما أنت كاسره ولا يهيضـون عما أنت جابره
ثم عقب ابن كثير بأن ابن القيم أخبره أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يقرأ هذين البيتين في سجوده، ويقول: "لا يصلح هذا لغير الله"..
فالوثنية السياسية ضاربة بأطنابها في ثقافتنا، والأصنام البشرية حلت محل الأصنام الحجرية، ولا سبيل لنا سوى التقيد بوصية الشاعر محمد إقبال في نبذ منهج آرز، واتباع ملة إبراهيم عليه السلام وهو يحطم الأصنام:
نحت أصـنام آزر صنعة العاجز الذليلْ
والذي يطلب العلا حسبه صنعة الخليلْ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق